زوجات الشهداء حكايات من دفتر أحزان غزة
" في الحروب ليس التعساء الذين يموتون.. بل التعساء أولئك الذين يبقون خلفهم .. ثكلى.. ويتامى ومعطوبي الأحلام".
زوجات
الشهداء هن من أسرجن الحياة أمالا في درب الآلام، خضن غمار المعركة وأصبحن
وقود الشعلة لحياة أسرهن بعد فقدان المعيل، ومضين في طريقهن كي تستمر
الحياة الثقيلة التي كتب عليهن أن يعشنها دون الغائب، فقد انتخبن بحق رموز
فخر وأمل لمستقبل أولادهن، في محاولة منهن لرسم ابتسامة غابت عن الشفاه،
ولمحة من بصيص أمل رحلت مع الراحلين.
من
الصعب أن تقف أمام زوجة فقدت الأمان بفقدانها لزوجها، تتزاحم الأفكار
ويعجز اللسان عن النطق أحيانا، من أين سنبدأ ؟هل نسألها عن بداية الرحلة أم
عن ذكرى الساعات الأخيرة ؟ أم نتوقف أمامها لنرى تلك الشخصية التي تخفيها
خلف تفاصيل الحزن على فراق زوجها، مشوار نبدأه سويا.
أم
يوسف هي واحدة من هؤلاء النساء، تروي رحلتها من البداية فتقول: تزوجت من
عبد السلام بعد أن تقدم إلى خطبتي وعشنا في هذا المنزل الصغير من أول يوم،
بدأنا حياتنا بأمل كبير في المستقبل، وتطور عمل زوجي وكانت الظروف تتحسن
كثيرًا وأنجبنا ولدين وبنتًا، لكن الوقت لم يمهلنا كثيرًا لنكمل الحلم
سويا، فقد رحل بعد أن استهدفته رصاصات القناصة الإسرائيلية من على أحد
البيوت المجاورة.
تنظر
أم يوسف إلى صورة زوجها التي تتوسط الغرفة وتتابع قائلة : كنا تحت الحصار
حيث أحكمت الدبابات قبضتها على مخيم تل السلطان بمدينة رفح وبعد ثلاثة أيام
من انقطاعنا عن العالم الخارجي كان لا بد لعبد السلام الخروج من المنزل
إلى بيت مجاور للاطمئنان على والدته التي تعاني من مرض مزمن وفور خروجه من
المنزل قامت القوات الإسرائيلية التي اعتلت إحدى البنايات المجاورة
باستهدافه بطلقتين في خاصرته ليقع مدرجًا بدمائه على باب المنزل، كنت أبعد
عنه أمتارًا قليلة صرخت لحظتها كدت أنهار، لكني استجمعت قواي واقتربت منه
سحبته بكل قوة إلى الداخل صرخت على أحد لينقذني دون مجيب.
تتسلل
دمعتان من عيناها وتردف قائلة: تجمع أبنائي حولي وأبيهم مضرج بدمائه لا
أعرف كيف أتصرف لتصل عربة الإسعاف بعد ساعات من نزيفه المتواصل، غادرنا
زوجي ولم يبق لنا سوى بعض ما علق من دماءه حتى اليوم على أرضية وجدران مدخل
المنزل رحل وترك لي ثلاثة أطفال أكبرهم بعمر ثماني سنوات، وكم كان هذا
الامتحان صعبًا تجاوزه، فمسألة تربية الأولاد ليست سهلة فما بالنا لو كنت
وحدي دون أحد يساعدني سوى بعض ممن يتعاطف معي، وتضيف قائلة: بعد استشهاد
أبيهم ضممت أولادي إلى صدري، شعرت بالدفء ولمست حاجتهم لي، رفضت فكرة
الارتباط مرة جديدة مع علمي بأن بقية الطريق تحتاج مزيدا من الجهد وأن حلم
أبيهم في أن يراهم ناجحين يوما سيتحقق على يدي أنا بعد توفيق الله.
قصة
أم يوسف شبيهة بقصص الكثير من زوجات الشهداء، الذين قضوا تاركين وراءهم
نساء يكابدن مصاعب الحياة، ورفضن فكرة الزواج وفاء لأزواجهن، رغم أن الكثير
من الشباب في فلسطين حملتهم دوافع عديدة للارتباط بأرامل الشهداء، بل
تفضيل ذلك على الارتباط من فتيات بكر لما قد يشكله هذا من مدعاة للفخر بين
الناس، أو طلبا للأجر والمثوبة في ستر تلك النساء وتعويضهن عما فقدن.
أما
زوجة الشهيد محمد النواجحة فتقول "لا أصدق حتى الآن أن الله اختارني لأكون
زوجة شهيد ولكنه فخر لي أن أكون كذلك" إنها مسؤولية كبيرة خلفها زوجي على
عاتقي وحملني إياها في حسن تربية أبنائي وحدي دون سند، والمحافظة على
المبادئ والأفكار التي كان يؤمن بها، وعاش ومات من أجلها. وعن تفاصيل
استشهاد زوجها تحدثنا أم عبد الرحمن بصوت متحشرج: كان محمد برفقه أحد
أصدقاءه ممن انضموا إلى إحدى فصائل المقاومة، سمعنا صوت انفجار شديد ناتج
عن قصف جوي، تابعنا نشرات الأخبار حول استشهاد ثلاثة رجال في هذا القصف،
بعد ذلك حضر إلى منزلنا إخوة زوجي وبدا منظرهم غريبا سألتهم عن سبب حالتهم
فلم يجبني أحد، شعرت بأنهم يكتمون شيئا، وبعد إلحاح أبلغني أحدهم أن محمد
أصيب إثر هذا القصف، لم أصدق فقد أيقنت أن هناك ما هو أكبر من هذا، وبعد
تأكدي من استشهاده أصبت بالإغماء ولم أفق إلا بالمستشفى.
وتتابع:
"بصراحة" لا يوجد الآن من يملأ الفراغ الذي أحدثه غياب محمد، ولا أتخيل
حياتي مع رجل آخر دونه، لا أجد أحداً يعنيه أمرنا كما كان هو، الناس طيبون
جدًا ومتعاطفون معنا إلى أبعد حد، وأهل الخير كثر، ولكن كل هذا لا يكفي ولا
يغنينا عن وجوده بيننا، فإن كان في نشرة الأخبار مجرد رقم أو حدث عابر كان
بالنسبة لي أنا وأولاده كل شيء.
بعد
أن حارت بأنظارها في أرجاء المنزل تقول أم عبد الرحمن: لقد كنت أجلس هنا
أنا وزوجي، كنا نتحدث ونضحك ونقضي سهراتنا العائلية مع أولادنا، بعد فقداني
له لم يبق لي سوى ذكريات أراها في جنبات المنزل، لم أفكر في الزواج ولن
أفكر به، للعديد من الأسباب أبنائي يكبرون وقد انشغلت بهم عن أي شيء آخر،
لم أفكر إلا في محاولة الحفاظ على حياة كريمة لهم، وألا يشعروا بأي نقص وإن
كان هذا على حسابي أنا.
وتضيف
أم عبد الرحمن: لقد كان زوجي يعتمد عليّ في تربية الأبناء مع عدم إهماله
المتابعة، ولكنني اليوم أحس أن الحمل قد زاد على كاهلي وأصبح صعبًا خاصة
عندما أرى ابني الأكبر أحمد يحاول أن يلعب دور أبيه ليفقد بذلك طفولته
محاولًا أن يكون لنا رب أسرة رغم صغر سنه.
وفي
جانب آخر من مخيم رفح تسكن عائلة الشهيد سمير أبو زيد تقول أم سليمان:
زوجي كان يعمل بالمقاومة وكان عنده أصحاب له يسهرون، بعد مغادرتهم سارع
الأولاد ناحية أبيهم نادى علي وطلب مني أن أصحبهم إلى الداخل أخذت اثنين
منهم ورفض سليمان وإيناس وقالوا سنأتي للنوم مع بابا، تركتهم وعدت إلى
غرفتي وما هي إلا دقائق وأسمع صوت انفجار شديد خرجت مسرعة لأجد نيرانًا قد
اشتعلت في نفس المكان الذي كان يجلس به زوجي وأبنائي، لقد استهدفتهم قذيفة
بداخل المنزل، انشلت حركتي وحتى صوتي لم يخرج وأنا أنظر إلى ذلك المكان
الذي يملأه الغبار والدخان، حضر الناس بعدها وخرجوني من المنزل، علمت بعدها
أني لم أفقد زوجي فقط واثنين من أطفالي كانا معه، ضاقت الدنيا بي وأنا
أنظر إلى عينين ابني التي لن ترى وجه أبيه بعد الآن، واحمل في أحشائي
جنينًا آخر لن يلمح والده ضحكته البريئة، أحسست أني لن أستطيع الحياة حزنا
وكمدًا على زوجي وأولادي، كنت صغيرة حوالي 23 سنة، انتقلت للعيش ببيت أهلي،
وتقدم لخطبتي الكثيرون لكني كنت أرفض في البداية وما يسيطر عليّ مزيج من
شعور الألم والخوف، لكن بعد فترة علمت أن ما أفكر به خاطئ وأن أبنائي بحاجة
لمن يرعاهم ويحافظ عليهم ويعوضني وإياهم المصاعب التي واجهتنا بعد استشهاد
سمير. تزوجت أخو زوجي الذي يصغرني سنًا واسمه احمد وأنا الآن أعيش معه
بعدما أنجبت سليمان وإيناس، لقد عوضني الله بأبنائي خيرًا لكني لن أجد من
يكون مكان سمير، بالرغم من أن أحمد لا يحرمني من شيء ولكن طعم المرارة ما
زال في حلقي. وتوضح أم سليمان: أنا أشجع وبشدة على الزواج من زوجات
الشهداء، فنحن تحت الاحتلال، والأوضاع صعبة للغاية، بالسابق كانت زوجة
الشهيد تلقى المساعدة والعون من الجميع، والكل يتكاتف حولها، أما الآن
فالأوضاع سيئة على الجميع، وزوجة الشهيد قد لا تلقى معيلا وسندا لها
ولأبنائها بعد استشهاد زوجها.
يقول
الأستاذ سامي منصور الباحث الاجتماعي مستشفى غزة الأوروبي والمحاضر بجامعة
القدس المفتوحة: العلاقة الزوجية مطلب كل امرأة مهما تقدم بها العمر فهي
تسعى لأن تكون في حماية رجل، والأسرة والزواج يهيئان لها هذا الضمان، لكن
خصوصية الوضع الفلسطيني وأرامل الشهداء بشكل خاص يعطي انطباعًا آخر ومفاهيم
جديدة، فزوجة الشهيد فقدت زوجها في ظروف تجد تعاطف كل فئات المجتمع دون
استثناء غير تلك المطلقة أو التي توفي زوجها وفاة طبيعية.
ويضيف
منصور: بالإضافة أن من دوافع الزواج الرئيسية هي الأمان المادي الذي يوفره
الزوج عادة، وعند استشهاده تنشط المؤسسات الخيرية في تغطية المصاريف
الحياتية لأسرة الشهيد بما يضمن لهم حياة كريمة، وفي هذه الحالة بالغالب
تصرف أرمل الشهداء النظر عن فكرة الزواج أو الارتباط بآخر خاصة إذا كان
لديها أبناء منه.
ويؤكد
منصور: ولكن في بعض الحالات التي يختص بها الوضع الفلسطيني ربما دون غيره
تتعلق بمعيشة أرملة الشهيد في بيت زوجها أو عودتها إلى بيت أهلها،
واحتفاظها بأولادها في حضانتها ما يفرض عليها فكرة الزواج من احد إخوته
الذي قد يكون أصغر منها سنا أو أكبر منها بكثير وتجد نفسها مجبرة في قليل
من الأحيان.
تفضل
الكثير من النساء إلى العيش على ذكرى الزوج، وترى في أبنائها ذلك الغائب
عنها قصرا، تستوعب رسالتها الجديدة في الحفاظ عليهم وتربيتهم، وينهمكون في
تربية أبنائهم على الفضائل القيم النبيلة، وتحاول أن توفي بعهد قطعت على
نفسها كونها اختارت أن تتحمل هذه المسؤولية الجسيمة بنفسها ولوحدها.