قال اللّه تعالى{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وقال فيها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وقال فيها:{لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 13] ، فذكر عدد الشهداء وأطلق صفتهم، ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضي ولا من ذوي العدل، كما قيد صفة الشهداء في غير هذا الموضع.
ولهـذا تنازع العلماء،هـل شـهادة الأربعـة التي يجب بها الحـد على الزاني، مثـل شهادة أهل الفسوق والعصيان وغيرهم؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟ على قولين في مذهب أحمد:
أحدهما: أنها تدرأ الحد عن القاذف وإن لم توجب حد الزنا على المقذوف، كشهادة الزوج على امرأته أربع شهادات باللّه، فإن ذلك يدرأ حد القذف ولا يجب الحد على امرأته لمجرد ذلك؛ لأنها تدفع العذاب عنها بشهادتها أربع شهادات، ولو لم تشهد فهل تحد أو تحبس حتي تقر أو تلاعن أو يخلي سبيلها؟ فيه نزاع مشهور بين العلماء، فلا يلزم من درء الحد عن القاذف وجوب حد الزنا على المقذوف؛ فإن كلاهما حد، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، والأربع شهادات للقاذف شُبْهَة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً دُرِئ الحد عن القاذف، ولم يجب الحد عنها عند أكثر العلماء، ولو كان المقذوف غير محصن مثل أن يكون مشهوراً بالفاحشة لم يحد قاذفه حد القذف، ولم يحد هو حد الزنا لمجرد الاستفاضة، وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد، وقد اعتبر نصاب حد الزنا بأربعة شهداء.
وكذلك تعتبر صفاتهم، فلا يقام حد الزنا على مسلم إلا بشهادة مسلمين،لكن يقال: لم يقيدهم بأن يكونوا عدولا مرضيين، كما قيدهم في آية الدين بقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} [البقرة: 282]، وقال في آية الوصية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 106]، وقال في آية الرجعة:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فقد أمرنا اللّه سبحانه بأن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا، وهؤلاء هم الممتثلون ما أمرهم اللّه به بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} الآية [النساء:135]، وفي قوله:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} [البقرة: 238]، وقوله:{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282]، وقوله : {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، فهم يقومون بالشهادة بالقسط للّه فيحصل مقصود الذي استشهده.
الوجه الثاني: أن كون شهادتهم مقبولة مسموعة، لأنهم أهل العدل والرضا.
فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء، وقد نهي سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6]، لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره، وأما الفاسقان فصاعداً فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخري، وما ذكروه من عدد الشهود لا يعتبر في الحكم باتفاق العلماء في مواضع، وعند جمهورهم قد يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك، ويحكم بشاهد ويمين كما مضت سنة رسول اللّه صلي الله عليه وسلم فإنه قضي بشاهد ويمين، رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم من حديث ابن عباس "أن رسول اللّه صلي الله عليه وسلم قضي بشاهد ويمين" ورواه غيرهما، ويدل على هذا أن اللّه لم يعتبر عند الأداء هذا القيد: لا في آيـة الزنا ولا في آية القذف،بل قال:{فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} [النساء: 15]، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 4] ، وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد؛ ولم يأمر به عند خبر الفاسقين، فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد؛ ولهذا قال العلماء: إذا استراب الحاكم في الشهود فَرَّقَهُم وسألهم عن مكان الشهادة وزمانها وصفتها وتحملها، وغير ذلك مما يتبين به اتفاقهم واختلافهم.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة أبداً، واحداً كانوا أو عدداً، بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل؛ لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان الذين قذفوا عائشة عدداً، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قد قدمت [في] صحبة صفوان ابن المعَُطَّل السُّلَمي بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها عدمت ، فرفع أصحاب الهودج هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ولم تكن فيه، فلما رجعت لم تجد أحداً من الجيش فمكثت مكانها، وكان صفوان قد تَخَلَّفَ وراء الجيش، فلما رآها أعرض بوجهه عنها، وأناخ راحلته حتي ركبتها، ثم ذهب بها إلى العسكر، فكانت خلوته بها للضرورة، كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة، كسفر الهجرة؛ مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط مهاجرة وقصة عائشة.
وقد دلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين.
ودلت أيضاً على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور؛ فإنه كان من جملتهم مِسْطَح بن أُثَاثَة وحسان بن ثابت كما في الصحيح عن عائشة، وكان منهم حِمْنَةُ بنت جحش وغيرها، ومعلوم أنه لم يرد النبي صلي الله عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم؛ لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء ما زالوا مسلمين، وقد نهي اللّه عن قطع صلتهم ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة، وقصة عائشة كانت أعظم من قصة المغيرة، لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة قد يقول: أرد شهادة من حد في القذف وهؤلاء لم يحدوا.
والأولون يجيبون بأجوبة: أحدها: أنه قد روي في السنن أن النبي صلي الله عليه وسلم حد أولئك.
والثاني: أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا يقولون به كما هو مقرر في موضعه.
والثالث: أن الذين اعتبروا الحد اعتبروه، وقالوا: قد يكون القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً، فإعراض المقذوف عن طلب حد القذف قد يكون لصدق القاذف، فإذا طلب الحد ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه، ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد؛ فإن اللّه هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلي، فإذا كانت شهادتهم بعد توبتهم مقبولة، فشهادة غيرهم ممن شهد على غيرها بالقذف أولي بالقبول، وقصة عمر بن الخطاب التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار في شأن المغيرة ، لما شهد عليه ثلاثة بالزنا وتوقف الرابع عن الشهادة فجلد أولئك الثلاثة، ورد شهادتهم دليل على الفصلين جميعاً، كما دلت قصة عائشة على قبول شهادتهم بعد التوبة والجلد، لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل عمر والمسلمون شهادتهما، والثالث: وهو أبو بكرة مع كونه من أفضلهم لم يتب، فلما لم يتب لم يقبل المسلمون شهادته، وكان من صالحي المسلمين، وقد قال عمر: تب أقْبَلُ شهادتك، لكن إذا كان القرآن قد بين أن القَذَفَةِ إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً، ثم قال بعد ذلك: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]، فمعلوم أن قوله:{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وصف ذم لهم زائد على ما ذكره من رد شهادتهم.
وأما تفسير (العدالة) المشروطة في هؤلاء الشهداء: فإنها الصلاح في الدين والمروءة، والصلاح في أداء الواجبات، وترك الكبيرة، والإصرار على الصغيرة .
و(الصلاح في المروءة): استعمال ما يجَمِّله ويزَينُه واجتناب ما يدَنِّسَه ويشينه، فإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته، وكان من الصالحين الأبرار.
وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتي يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب اللّه وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها، ومن كان كذلك كان من أولياء اللّه المتقين.
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق اللّه وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا اللّه تعالى مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنا، ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته؛ إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة، وبالجملة، هذا معتبر في باب الثواب والعقاب، والمدح والذم، والموالاة والمعاداة وهذا أمر عظيم.
وأما قول من يقول: الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل، بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل.
و(باب الشهادة): مداره على أن يكون الشهيد مرضياً أو يكون ذا عدل، يتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله والصدق في شهادته وخبره، وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات، كما أن الصفات التي اعتبروها كثيراً ما توجد بدون هذا، كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً، لكن يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة" الحديث إلى آخره.
فالصدق مستلزم للبر كما أن الكذب مستلزم للفجور، فإذا وجد الملزوم وهو تحري الصدق وجد اللازم وهو البر، وإذا انتفي اللازم وهو البر انتفي الملزوم وهو الصدق، وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم، وإذا انتفي اللازم وهو الفجور انتفي الملزوم وهو الكذب، فلهذا استدل بعدم بر الرجل على كذبه، وبعدم فجوره على صدقه.
فالعدل الذي ذكره الفقهاء من انتفي فجوره، وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة، وإذا انتفي ذلك فيه انتفي كذبه الذي يدعوه إلى هذا الفجور، والفاسق هو من عُدِمَ بره، وإذا عدم بره عدم صدقه، ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور.
فالخطأ كالنسيان، والعمد كالكذب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق