المشاركات الشائعة

23‏/12‏/2011

إدمان الجنس : الجنس القهري

إدمان الجنس : الجنس القهري : توطئة وتقديم
مثلما هو الحال مع إدمان الأكل وإدمان الإنترنت وإدمان الألعاب الإليكترونية وإدمان الشراء نجد في أغلب الأحيان صعوبة في تحديد الخط الفاصل بين ما هو طبيعي ومقبول وما هو مرضي وقهري أو إدماني ولعل كون الجنس نشاطا مستورا في أغلب الأحيان -بخلاف النشاط الظاهر مثل الأكل واستخدام الإنترنت والشراء....إلخ- يجعل الصعوبة أكثر، كما يجعل ذلك الستر من شخص مدمن الجنس العارف الوحيد في كثير من الحالات بإدمانه، وعلينا هنا أن ننتبه إلى المأساة الحقيقية التي يقع فيها مدمن الجنس حين يكون العارف الوحيد بإدمانه لأنه ككل المدمنين يعيش طويلا من حالة من النكران والتبرير تعمي بصيرته عن حقيقة ورطته وتؤجل كثيرا من طلبه المساعدة أو العلاج.

وقبل الحديث عن أعراض إدمان الجنس وعلاماته لابد من تأمل الدور الذي يلعبه المجتمع في تشكيل الأعراض فلن تكون الأعراض والعلامات المعتادة لما يسمى إدمان الجنس في مجتمع ملتزم -شكلا على الأقل- مثل مجتمعاتنا هي نفسها أعراض إدمان الجنس في البلدان المطلقة للحرية الجنسية كما في الغرب، لن يكون لدينا مثلا ممارسين للجنس الاستعرائي Exhibitionist sex مثل التعري أو الممارسة الجنسية في الأماكن العامة كجزء من أعراض إدمان الجنس، ولكن تكون الأعراض لدينا غالبا مستورة عن الآخرين، فنجد أعراض إدمان الجنس متمثلة مثلا في إدمان الاستمناء والاعتمادية على المواد الجنسية الإباحية Pornography Dependence فلدينا كثيرون يبقون لساعات يجهزون ويحضرون لأجل الاستمرار في نوبة من نوبات الاستمناء أمام الصور أو الأفلام الجنسية الإباحية وبعضهم يصل عدد مرات استمنائه أكثر من عشر مرات خلال يوم كامل، وهناك حديثا من حديثي البلوغ في بناتنا وأولادنا مدمنون ومدمنات للجنس الإليكتروني عبر الإنترنت يقضون ساعات في الممارسة الجنسية الإليكترونية!.. ولا يشك من يطلع على أحوال هؤلاء لحظة أن لديهم أعراضا وعلاماتٍ كافية للوفاء بما يتطلبه تشخيص إدمان الجنس رغم صغر أعمارهم.

ورغم كوننا هنا في مجتمعاتنا نتحدث عن الجنس التخيلي الخالص أو الجنس التخيلي المساعد بالصور الجنسية إلا أن معظم تلك الحالات في بلادنا تكون شديدة إلى حد شكوى أصحابها من الانشغال المستمر بالجنس أو الاشتهاء الجنسي المستمر، ومن طغيان التفكير في الجنس على كل الأنشطة الأخرى أو الانخراط باستمرار في الممارسات الجنسية المفرطة رغم الرغبة في التوقف، مع تكرار الفشل في محاولة الحد من النشاط الجنسي أو ترشيده.... وهذه العلامات وحدها تكفي التشخيص.

ولدينا كذلك أزواج وزوجات يعطون وقتا لا أقول أطول من اللازم بل أقول مفتوحا للممارسة الجنسية بشكل يومي ما أمكن... وبهذا الوصف سمعت شكاوى لزوجات مرضى ولمريضات... والغريب أن لم تكن شكوى أي من هؤلاء المرضى أصلا من شيء متعلق بنشاطهم الجنسي بل كانوا مرضى وسواس قهري Obsessive Compulsive Disorder أو إدمان عقاقير Psychoactive Drug Dependence أو اضطراب ثناقطبي Bipolar Disorder أو اكتئاب Depression أو صَرْع Epilepsy ، بينما كانت شكوى الزوجة من فرط الممارسة الجنسية شكوى أساسية في حالات الشذوذات الجنسية أو الاضطرابات ذات العلاقة بها،....

المهم أن الإسراف في الممارسة الطبيعية مع الزوجة أو غيرها (أو الزوج أو غيره) أو الزوجات عند المعددين إضافة إلى الإسراف في أي سلوك جنسي آخر طبيعي أو شاذ عند مرضى الشذوذات هذا الإسراف في الجنس يكون مصحوبا بوضوح بالأضرارَ والخسائر في مناطقِ الحياةِ الأخرى مثل التمويلاتِ أو التعليمِ أَو العملِ، ويكون مصحوبا بسوء الصحة الجسدية أَو النفسية المعرفية.... وبشكل لا يسمح لعاقل أن يقول لي: مشروعٌ ما دام مع الزوجة، ذلك أن عواقب الإسراف المزمن في الممارسة الجنسية تكون واضحة بالضرورة، وليس المقصود هنا أن زوجا يطلب ممارسة الجنس من زوجته مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع وإنما عادة ما تشتكي المرأة من زوج يطلب الجنس مرة واحدة أو أكثر غالبا كل يومٍ لمدة طويلة، ودون توقف حتى في أيام الدورة الشهرية، وبشكل يجعل الزوجة تشعر بأنها تُستغل أو تُستَخدم أو تهان....
ليست هناك أعراض ولا علامات معينة لإدمان الجنس، إلا أن تكرار ممارسة أي نشاط جنسي بإفراط وبشكل يشعر صاحبه بأنه خارج عن السيطرة أو قهري ويفشل في الامتناع عنه أو ترشيده يمكن أن تكون علامة على إدمان الجنس، وبالتالي فإن قضاء ساعات يوميا في ممارسة الاستمناء أو في البحث عن ومشاهدة الصور أو المواد الفيلمية الجنسية يعتبر إدمانا للجنس، كذلك فإن ممارسة الجنس التليفوني أو الجنس الإليكتروني بشكل يومي وقضاء أوقات طويلة في البحث عن شريك مناسب يعتبر إدمانا للجنس، مثلما تعتبر ممارسة الجنس بشكل مستمر في إطار أكثر من علاقة في نفس الوقت يعتبر إدمانا للجنس، وليست ممارسة الجنس بإفراط مع الزوج أو الزوجة لمدة طويلة وبشكل مستمر استثناء بل إن إدمان الجنس في أحد طرفي علاقة كثيرا ما يتسبب في اضطراب نفسجنسي يُسَمَّى "عدم توافق الرغبة الجنسية الشديد" Severe Sexual Desire Incompatibility ويصنف على أنه أحد الاضطرابات ذات العلاقة بالشذوذات الجنسية، ويعني أنه في إطار علاقة رومانسية مستمرة بين طرفين تمثل زيادة الرغبة وبالتالي طلب ممارسة الجنس من طرفٍ عبئًا ثقيلَ الحمل على الطرف الآخر بحيث يهدد ذلك استمرار العلاقة، وبشرط ألا يكون الأخير مصابا باضطراب نقص الرغبة الجنسية hypoactive sexual desire ،

ونظرا للطيف الواسع من السلوكيات الجنسية التي يستطيع الإنسان الحديث ممارستها فإن من المفيد أن نحاول تصنيف مدمني الجنس تصنيفا واسعا إلى مدمني الجنس الانفرادي مقابل مدمني الجنس مع شريك، وكذلك لدينا مدمنو الجنس الطبيعي مقابل مدمني الجنس الشاذ أيا كان نوع الشذوذ، ولعل أكثر أشكال إدمان الجنس الانفرادي شيوعا هو إدمان الاستمناء أو إدمان العادة السرية Masturbation Addiction ويليه إدمان مشاهدة المواد الفيلمية الإباحية Pornography Addiction غالبا مع الاستمناء، وللأسف ليست لدينا إحصاءات ولا حتى معلومات دقيقة عن ممارسات الجنس التليفوني أو الإليكتروني عبر الإنترنت في مجتمعاتنا إلا أنها كما تظهر في الممارسة الإكلينيكية هي أكثر أشكال الممارسات الجنسية التي يشترك فيها طرفان شيوعا في مجتمعاتنا في شريحة الشباب، ورغم كون الشريك هنا شريكا افتراضيا، وتوقع البعض لمتعة أقل يحصل عليها هؤلاء إلا أن الملاحظة المتكررة تبين أن هذا النوع من النشاط الجنسي الذي يعتمد على تقنيات التواصل الإليكترونية أكثر إحداثا للإدمان ربما من الممارسة الجنسية الحقيقية.

ومقابل مدمني الجنس غير الشذوذي أو الطبيعي Non-Paraphilic Sexual Addiction أي المتضمن فقط للممارسات الجنسية المقبولة اجتماعيا (ومع شريك من الجنس الآخر Heterosexual في مجتمعاتنا المتدينة) أو يقتصر على الجنس التخيلي أو التخيلي المساعد ويميزه من الممارسة الجنسية الطبيعية فقط فقدان السيطرة على السلوك الجنسي والإسراف فيه، مقابل هؤلاء نجد مدمني الجنس الشذوذي Paraphilic Sexual Addiction هم من المصابين باضطرابات التفضيل الجنسي Sexual Preference Disorder أو الشذوذات الجنسية كالتوثين أو الأثرية أو الفتشية Fetishesm والمازوخية Masochism والسادية Sadism والاحتكاكية أو التزنيق Frotteurism وعن الاستعراء Exhibitionism والولع بالبراز Coprophilia ، والولع بالحقنة الشرجية Klismaphilia ، والطفالة Infantilism ... ووطء الموتى Necrophilia ....، وغير ذلك من كثير متكاثر من أشكال الشذوذات الجنسية، ففي كل هذه الاضطرابات تظهر علامات الإدمان في صورة تشبه تلك الموجودة في اضطراباتُ التحكم في الاندفاعات Impulse Control Disorders ( أو حسب تسمية التصنيف العالمي ICD/10 اضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders ) وفي هذه الفئة تظهر القهورات الجنسية أو الأفعال القهرية الجنسية بوضوح، فالذي يحدثُ في هؤلاء هوَ أن الشخصَ يحسُّ بأنهُ مجبورٌ على الإتيان بفعلٍ جنسيٍّ معينٍ والذي قد يكونُ في حد ذاته مُـمْتِـعًـا بالمعنى الجنسي للكلمة أو قد يكونُ مجرَّدٍ مخفِّفٍ للضيق والتوتر الذي يعانيه الشخص، وهوَ في الحالةِ الأولى يعتبرُ نوعًا من أنواع اضطرابات التحكم في الاندفاعات أو اضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders والتي تدخلُ في اضطرابات نطاق الوسواس القهري فهيَ حالةٌ يكونُ إتيانُ الفعل القهري فيها مُمْتِعًا في حد ذاته في معظم الأحيان، بينما هو في الحالة الثانية يقترب أكثر من اضطراب الوسواس القهري نفسه لأنه كالفعل القهري المعتاد يخفف الضيق أو الخوف فقط.

وإذا استثنينا حالات الشذوذات الجنسية Paraphilias (أو اضطرابات التفضيل الجنسي Sexual Preference Disorder ) والتي نجد معظم أصحابها مدمني جنس، فمن الواضح أن نوعية السلوك الجنسي ليست هي الجوهر في تشخيص إدمان الجنس ذلك أن أي نوعية من النشاط الجنسي يمكن أن تكون جزءا من نشاط مدمن الجنس مثلما هي جزء من النشاط الجنسي الطبيعي، وإنما المشكلة الجوهرية في إدمان الجنس تكمن في النمط الذي يتخذه ذلك السلوك الجنسي في حياة المدمن فيجعله يمارس ذلك السلوك بإسراف وإفراط إضافة إلى مرضية علاقة المدمن بنشاطه الجنسي فهو يشعر بأنه خارج عن سيطرته ولا يستطيع الامتناع عنه رغم عواقبه السيئة وهو في نفس الوقت يستخدم ذلك السلوك للتعامل مع مشاعر الضيق والقلق والاكتئاب بالضبط كما يستخدم مدمن الكحول الخمر، أي أن اضطراب علاقة المدمن بسلوك معين أو مادة معينة هو جوهر الإدمان بغض النظر عن نوعية السلوك أو المادة وهي رؤية للإدمان تركز على مشاعر الشخص وخبرته الداخلية أثناء السلوك المدمن ويعود الفضل فيها إلى كارنيز (Carnes, 1983) في كتابه عن فهم إدمان الجنس.

وبالتالي فإن الأسئلة الثلاثة الأكثر أهمية فيما يتعلق بالنشاط الجنسي لمدمن الجنس هي (Giugliano, 2009):
1- هل يشعر الشخص بأنه فاقد للسيطرة فيما يتعلق بفعل السلوك أو عدم فعله؟
2- هل يعاني الشخص من عواقب سلوكه هذا شخصيا أو أسريا أو اجتماعيا؟
3-
هل يجد الشخص نفسه يفكر في ذلك السلوك حتى وهو غير راغب في التفكير فيه؟

ولعل أهم الأعراض والعلامات التي تمثل ضوءً أحمر في مسار علاقة الإنسان بنشاطه الجنسي تماثل نفس العلامات الحمراء في علاقة المدمن بالمادة المدمنة هي:
٠ الانخراط المتكرر في النشاط الجنسي أكثر مما يكون مخططا أو مقصودا من قبل الشخص.
٠ الانشغال المستمر بالجنس أو الاشتهاء الجنسي المستمر؛ مع تكرار الفشل في محاولة الحد من النشاط الجنسي.
٠ طغيان التفكير في الجنس على كل الأنشطة الأخرى أو الانخراط باستمرار في الممارسات الجنسية المفرطة رغم الرغبة في التوقف.
٠ قضاء وقت كبير في الأنشطة المتعلقة بالجنس، مثل البحث عن الشركاء أو قضاء ساعات على الإنترنت في زيارة مواقع أو مشاهدة قنوات إباحية.
٠ إهمال الالتزامات الحياتية كالعمل أو الدراسة أو الأسرة في السعي وراء الجنس.
٠ الانخراط باستمرار في السلوك الجنسي رغم الآثار السلبية، مثل خسران العلاقات أو المخاطر الصحية المحتملة.
٠ تصاعد وتيرة النشاط الجنسي مع الوقت لتحقيق التأثير النفسي المطلوب، مثل المزيد من الزيارات المتكررة للبغايا أو البحث عن عدد أكبر من الشركاء الجنس.
٠ التوتر والعصبية عند عدم القدرة على ممارسة ذلك السلوك الجنسي.

وحقيقة فقد وضعت معايير تشخيص متعددة لإدمان الجنس ولكننا سنضع هنا المعايير التي تكاد تكون متفقا عليها بين هذه المعايير (Vesga-Lopez et al., 2007) :
- يعيش الفرد خبرات جنسية مثيرة في صورة خيالات أو نزعات أو سلوكيات مستمرة ومكثفة بصفة يومية تقريبا
- ينتج عن هذه الخبرات الجنسية المثيرة ضيق شخصي أو اختلال أو تدهور في أي من المجالات على الأقل الأسرية أـو الأكاديمية أو الوظيفية
- تستمر هذه المعاناة على الأقل ستة أشهر
- ليست الحالة نتيجة لحالة طبية أخرى ولا يمكن تفسيرها كجزءٍ من اضطراب نفسي (محور أول أو ثاني) آخر.

وأخيرا فإن من الواضح أن الإسراف في ممارسة السلوك الجنسي والتعامل معه كمحسن للمزاج بشكل مزمن يمثل العرض أو العلامة الرئيسية لإدمان الجنس مثلما يمثل العامل الأهم في الإمراضية النفسية لحالات إدمان الجنس بمعنى أنه كلما زاد الإسراف في الجنس كلما زادت قابلية المسرف للإدمان وكلما زاد استخدام الجنس في المعالجة الذاتية للمشاعر السيئة كلما زاد تورط الشخص في إدمانه...... ولعلنا سنفصل هذا أكثر في مقال تال عن الأسباب المتهمة بأنها وراء تورط ملايين البشر في إدمان الجنس أو الجنس القهري.

المراجع:
Carnes, P. (1983): Out of the shadows: Understanding sexual addiction. Minneapolis, MN: Comp Care Publications.
Giugliano, John R. (2009): Sexual addiction: Diagnostic problems. International Journal of Mental Health and Addiction, 7, 283-294.
Vesga-Lopez, O., Schmidt, A., & Blanco, C. (2007): Update on sexual addictions.
Directions in Psychiatry, 27, 143–158.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق